الوضع مجلة صوتية

{{langos!='ar'?"Issue "+guestData[0].issueNb:"عدد "+guestData[0].issueNb}}
{{langos!='ar'?item.title:item.arTitle}}
{{langos!='ar'?item.caption:item.arCaption}}
{{langos!='ar'?item.title:item.arTitle}}

عدد 2.1

عن ما بعد الثورة وقبلها

بلال فضل

شارك
{{(itemEpisode.isfavorite?'removetofav':'addtofav')|translate}}
المحاور سنان أنطون
{{langos=='en'?('06/01/2015' | todate):('06/01/2015' | artodate)}}
{{('20'=='10'?'onEnglish':'20'=='20'?'onArabic':'20'=='30'?'onBoth':'') | translate}}

ضيوف

بلال فضل
بلال فضل

كاتب مصري


بلال فضل كاتب مصري ولد في القاهرة عام ١٩٧٣.  سبق وأن عمل محرراً وكاتباً  في كبريات الصحف المصرية والعربية. كتب عشرات السيناريوهات لمسلسلات وأفلام مصرية. ولديه العديد من الكتب. آخرها “فتح بطن التاريخ” (دار الشروق، ٢٠١٤).  

قراءة المزيد

حوار المقابلة


سنان أنطون: نريد أن نسألك أستاذ بلال فضل عن وجودك في أميركا، هل أنت مهاجر أم هي زيارة لها حيثياتها وتأثيرها على مشاريعك الكتابية؟

بلال فضل: بوسعك القول إنني مسافر، فقد أتيت في رحلة عمل لمدة عامين، كان هذا حلماً قديماً أن أدرس مسرحاً وأكتب  مسرحاً لكن هذا تأجل كثيراً بسبب المشاغل والارتباطات. انقطع رزقي في مصر بشكل أو بآخر ـ ويمكن أن نتكلم عن هذا فيما بعد بالتفصيل ـ وواجهت مشكلة بعد منع مسلسل “أهل اسكندرية”، وهي أن كل مشاريعي تقريباً توقفت فرأيت نفسي في فترة بطالة، ولدينا مثل يقول “إن اليد البطالة  نجسة”، فقررت أن أستغل الفرصة وأستجيب لفرصة العمل هنا، وفعلاً أنا أعمل حالياً علي مسرحية من المفروض أن تُترجم إلى الإنكليزية فيما بعد، وفي الوقت نفسه أعمل كمراسل ثقافي وفني لموقع التقرير وموقع العربي الجديد الذي أكتب فيه. هناك أشخاص ينطبق عليهم وصف مهاجر لكنني أحب وصف مسافر لمدة سنتين. الله يعلم ما الذي يمكن أن يحدث بعد ذلك.

سنان أنطون: هل يمكن أن تحدثنا قليلاً عن المسرحية من أجل المستمعين؟

بلال فضل: لا أستطيع أن أخبرك عن الفكرة لأنها هذا يولد حظاً سيئاً ولم يترك أولاد الحرام لأولاد الحلال أي شيء، لكن بالتأكيد أعرف أن كل مستمع لموقعكم هو من أولاد الحلال. لكن هذا لا يمنع تسرب أحد أولاد الحرام. لكن بوسعك القول إنها عن تجربة شخصية حصلت معي في ريف ولاية أميركية في الشرق وهي كونتيكت. أنت تعرف أنه في طريق الريف بين نيويورك وبوسطن هناك موتيلات صغيرة وهي تكون عبارة عن بيت فيه صاحب البيت وزوجته وطباخ وعاملة، إلخ ومعهم شخصيات وأنا منها، أي بطل المسرحية. وهي تجربة حقيقية حين رويتها للأصدقاء أعجبوا بها، تتوفر فيها عناصر المسرح إذ يوجد مكان واحد يجمع الشخصيات، فحتى تأديتها على خشبة المسرح ممكنة. هذه أول تجربة لي في  المسرح وهو حلم قديم بالنسبة لي منذ أن كنت ممثلاً في المسرح في الجامعة لكن هذه أول مرة أكتب مسرحية بعد أن كتبت أعمالاً سينمائية وتلفزيونية.
وعندي أمل كبير بأنها ستحقق نجاحاً.

سنان أنطون: بعد أيام ستمر ذكرى الثورة في مصر. أعرف أن هذا سؤال صعب جداً ولكن ما الذي يعتمل في نفسك في هذه الأيام باعتبارك من الذين عاشوا وشاركوا وكتبوا عن الثورة وآمالها وطموحاتها وكتبوا عن خسوفها إن صح التعبير أيضاً؟



بلال فضل: إن تعبير خسوف تعبير مؤلم لكنه دقيق، أنا أفضّله على تعبير الهزيمة الذي يستخدمه الناس باستسهال. أنت تعرف أن في علم النفس يتعجل المرء أحياناً الهزيمة كي يريح نفسه، كي يعفي نفسه من مرارة الحرب والدخول في المعارك فيقرر إعلان الهزيمة من طرف واحد، وهذا اختيار إنساني، وأنا لست مع من يقول الكلام التافه بأن اليأس خيانة. إن اليأس شعور إنساني طبيعي، والإحساس بالهزيمة شعور طبيعي لا بد من احترامه، ولكن إذا تكلمنا بشكل دقيق إن تعبير الخسوف أو الانحسار هو تعبير أدق، لأنني أرى أن هزيمة الثورة يتم إعلانها في حال تمكنت الثورة المضادة من صناعة خطاب يحل مشاكل اللحظة الراهنة أو يعد بحلها. وحين تتجرد من مشاعرك أو ملابسك وتراقب ما يحصل في مصر ستجد أن الثورة المضادة بأشكالها المتعددة سواء قبل وصول الإخوان إلى الحكم أو ما بعد خلع مرسي من الحكم، كل الخطاب الذي تعلنه هو خطاب إما يتمسح بالثورة أو يحاول تفكيكها من الداخل عبر خلق سرديات من نوعية: أنها كانت ثورة طاهرة  وشريفة لكن الإخوان سرقوها. أو كانت ثورة رائعة أو جميلة لكن الغرب تآمر عليها أو دخل فيها. أو حتى الخطابات التي يرددها الإخوان وهي أن الدولة العميقة هي التي فعلت كل المصائب من غير أن تعترف بأخطائها، أو حتى الخطاب الذي يطرحه الثوار عن المؤامرة من غير أن يمارسوا نقداً ثورياً. إن كل الخطاب المطروح في الساحة لم يتجاوز ثلاثة شعارات رئيسية طرحتها يناير وهي: عيش، حرية كرامة إنسانية، أو حرية، كرامة، عدالة اجتماعية. بالتالي، حتى هذه اللحظة لا يمكن علمياً أو عمليا أن نقول إن الثورة المصرية انهزمت. بالعكس أنا أرى ما يحصل الآن على يدي عبد الفتاح السيسي يعمق أسباب الثورة، و يحدث هذا أيضاً كلما حصلت حوادث بسيطة مثل  بالمصادفة أمس قُتل شابان أخوان في السويس، وهما بطلا مصارعة، قتلهما ضابط شرطة برصاصة واحدة. انفجرت الأحداث في السويس وتبين أن كل الكلام عن تحالف الناس مع الشرطة أو أن الناس رضخت للشرطة، غير حقيقي، ليبدو للناس أن الأمور مرشحة في كل دقيقة للانفجار، يجب أن يدرك حتى القائمون على الثورة المضادة أن خلاصهم وخلاص مصالحهم نفسه يكمن في التشبث بأهداف الثورة.  في الحقيقة إن الثورة المصرية فيها ميزة وفيها عيب، فيها كل مزايا الفرص الأخيرة وكل عيوب الفرص الأخيرة، بمعنى يجب أن يُدرك المستفيدون من الأوضاع القائمة كالقضاة وضباط الشرطة ووكلاء النيابة أنه لا بد  من  تغيير طريقتهم في الحكم، ولا بد أن يكفوا عن نظرية كل شيء أو لا شيء التي حكموا بها البلد في الستين سنة الماضية. يجب أن يحصل وضع من التفاوض بين جميع أطراف اللحظة. لدينا تعبير في العامية المصرية هو تعبير عبقري جداً يقول “كل بسْ ما تحفّش”، حين تأكل لا تأخذ اللقمة وتدخل يدك وتأخذ قعر الطبق، “كل ولكنْ بالراحة”. المطروح الآن في مصر هو أن الناس يُقال لهم “كلوا ولكن لا تحفوّش”، امنحوا فرصة للناس كي تعيش ويمكن أن تحققوا هذا، لا أريد التفرع كي أتيح لأسئلتك المجال. فبعد كل الدماء التي سالت يفرض الواقع شعارات وحتى أفكاراً جديدة. فبعد الثورة مباشرة ما كان مطروحاً هو فكرة القصاص، أما الآن فلم يعد لكلمة القصاص مكان. ذلك أن الجميع تورطوا في القتل، ما عدا الثوار طبعاً، أقصد أن الأخوان قتلوا  أشخاصاً والشرطة قتلت أشخاصاً، والجيش قتل أشخاصاً، فإذا كنت ستقتص فإن الشعب كله سيقتص من نفسه ولن يبقى إلا خمسين نفراً على قيد الحياة، لكن يجب الإصرار على فكرة العدالة الانتقالية وفكرة المصالحة والحقيقة وفتح أبواب لعدم تزييف الحقائق، أي أن يقوم كل شخص بدوره بشجاعة ويتحمل نصيبه من المسؤولية بشجاعة ثم بعد ذلك نتكلم عن فكرة العدالة، وأن نتيح الفرصة للتصالح والمسامحة. إن المشكلة هي أن التفكير المصري القائم يريد أن يقفز على المصالحة بدون الحقيقة بالتالي تكون مصالحة كاذبة وتكون بالتالي مثل المصالحة اللبنانية والتي هي تبويس لحى، وكل فترة تنفجر الأوضاع ويسألك الناس ما الذي حصل؟  ما حصل هو أنه لا يوجد حقيقة، كلكم كذابون وقتلة وتتصالحون في لحظة من اللحظات ثم حين تنفجر الأوضاع، تسألون ما الذي حصل؟

سنان أنطون: لقد تحدثتَ عن موضوع الخطاب الذي كان يحاول تفكيك خطاب الثورة من الداخل والآن إذا كان هناك أمل، ما هي برأيك ملامح الخطاب الذي سيكون منتجاً ومثمراً للتصدي للوضع الحالي؟ أعني إذا كان هناك حراك ثوري فما هو الخطاب الذي يجب أن يستخدمه الثوار أو الناشطين لمحاولة تفكيك خطاب الثورة المضادة؟


بلال فضل: كل شخص يكتب من موقعه، وأكيد لو أنني كنت في في السجن وممنوع أن يزورني أحد وأدخل الحمام باستئذان، لن أتكلم عن الأمل، ولذلك أنا لا أتكلم عن الأمل، وأقول للناس إنني لا أتكلم أبداً عن الأمل ولا عن اليأس. أنا أتحدث عما يجب أن تعمله طالما أن هناك نفساً تتنفسه. اختر الخيار الذي يريحك، إذا اخترت الهزيمة لا بأس، لكن لا تكن عنصراً معوّقاً وتقف في وجه الناس في الشارع وتقول لهم يكفي لقد انهزمنا. اجلس في البيت ولا تخرج إلي الناس وتقول: لهم هناك أمل، هناك أمل. سيقولون إنك مجنون. حاول أن تؤدي الأداء الذي لا يعيق حركة الحياة. حتى لو اعتبرت حالتنا هي كالنعش، إما أن تحمل النعش أو تتنحى،  يجب ألا أن تطلع فوق النعش وترهق الذين يحملونه. فما بالك لو أن المسألة فيها ناس.

أنا رأيي أن الأوطان جريحة، الأوطان لم تمت، ما يزال فيها نَفَس، والدليل على ذلك كل هذا الكم المدهش من الشباب المبدع في القصة والشعر، والذي يبدع في التعبير عن يأسه، وفي التعبير عن تشاؤمه، فمن القواعد الرئيسية في أوقات الثورات ـ وقد كتبت أنا هذا كثيراً ـ وخذها مني نصيحة: في أيام الثورات لا تنصحْ أحداً، كل شخص يتصرف بغريزته، أنت في ساحة معركة، هناك قعقعة السيوف وجعجعة الدروع وصليل والصوارم والأشياء التي نسمع عنها هذه، يتصرف الإنسان بغريزته لكن يبقى لديه مبادئ، قواعد استرشادية، وقد كتبتُ حول هذا مقالة عنوانها “دليل الثائر المخنوق للإفلات من الخازوق”، محاولة استرشاد للحكاية. عمري ٤١ سنة وقد اشتغلت مبكراً، عملت في الصحافة منذ ١٩٩١، وأتذكر أيامي حين كنت أذهب كي أمثل أمام النيابة وكي أُحاكَم على قضايا نشر وقضايا رأي، الآن تحصل الحكاية نفسها، لكن في أيامي لم تكن هناك بارقة أمل، لم يكن هناك رئيس وضع في الزنزانة، و بدأ “يلعب بمناخيره”، وبدأ يشكل هاجساً مرعباً لكل الناس الذين بعده في السلطة بما فيهم عبد الفتاح السيسي. إن شبح مبارك في القفص حاضر الآن لكل حكام مصر، بشكل لا يتخيله حتى الثائر الذي يسفّه من انتصاره، الذي يرى في النهاية ماذا يعني أن يجلس حسني مبارك في المشفى العسكري ويتعالج، لا، أنت قاطعتَ أسرة كان يمكن أن تحكم مصر ٦٠ سنة أخرى. صحيح أن المسألة ما تزال صعبة، وما زالت الطبقة العسكرية مهيمنة وستظل مهيمنة لفترة طويلة لكن أهم شيء يجب أن تدركه هو أنه في الثورة الأولى أنت كنت تتحرك بحماس وغريزة. إن اللحظة الراهنة الآن سواء كانت ستؤدي إلى موجة ثورية قادمة أو لن تؤدي، حاول أن تقلل من فكرة الغريزة وتزيد من فكرة الوعي. كان المرء يكتب في السنة الأولى من الثورة، والمقالات موجودة فأنا لا أدعي هنا، وجمعتها في كتاب بعنوان “فتح بطن التاريخ”، وقد اعتبر الناس وقتها أنني ألعب دور البومة وأحذّر الناس في لحظة نصر،، لكن يا أخوة انظروا بهدوء ولاحظوا ما حصل بعد ثورة ١٩، وشاهدوا ما حصل لأحمد عرابي بعد اندفاعه، وقع في لحظة نصر، وشاهدوا ما حصل في فرنسا، ربما كنت مخطئاً أن الوقت آنذاك لم يكن وقت الوعي وكانت الناس كلها منتشية بالحماسة. هذا هو الدور الذي أنا لعبته، وجاء الوقت الآن كي نقوم من جديد بقراءة تاريخ الثورات، وهذا فرض عين الآن، كي نعرف ما جرى، أنا حين كنت أنا وغيري نقول للناس في ما بعض نكتبه،  لكنني أتحدث الآن عن نفسي بما أنك تحاورني لأنني لا أدعي لنفسي فضلاً لا يشاركني فيه أحد، مثلاً حين كنا نقول: لا تدفعوا الناس بالحماسة الثورية المفرطة إلى انتشار لحظة فوضى يحنون فيها إلى مستبد يلم شمل الوطن في تصورهم، كانوا يقولون لك لا إن الشعب لن يفرّط أبداً بحريته، لكن هذا حصل ستين مرة وفرّط الشعب بحريته، تاق لفكرة أن يوصل أولاده إلى المدرسة وأن ينزل إلى الشارع ولا يسمع إطلاق النار ولا يرى مظاهرة. كان الحراك في الشارع مهماً ولكن لا بد من تتويجه بحراك سياسي يجمع شمل الناس. إن الهتاف مهم لكنه ليس الهدف الوحيد للثورة. وكما يوجد قنوات تعبر عن نفسها بالغضب والهتاف في المظاهرات ورمي الحجارة والمولوتوف وكل ما يمكن فعله لصد استبداد الشرطة وقتلها للناس في محمد محمود ومجلس الوزراء وما بعده، لو كان هذا لا يصب في إطار كيان سياسي تتفق فيه الناس على مبادئ أولية أو حتى كيانات سياسية مختلفة ومتعددة يكون هناك تنسيق فيما بينها في بعض الأهداف واختلافات فإن كل هذا سيؤدي إلى أن أول قوة منظمة ستقفز إلى الحكم كما فعل الإخوان، وستطيح بها القوى المنظمة الثانية الوحيدة التي هي الجيش، وسيظل هذا السيناريو يتكرر الآن في هذه اللحظة، الجيش يحاول العثور على طريقة للصلح مع الإخوان، والإخوان ينتظرون اللحظة التي يعلن فيها الجيش إفلاسه وبالتالي يصلون إلى لحظة اتفاق ويظل الثائر أو الغاضب ، اللاعن، الرافض تاركاً العمل السياسي للذئاب الصغيرة والثعالب وكافة أنواع الحيوانات التي تقتات على الجثث. هذا هو الدرس  الرئيسي المهم الآن: وهو أن نفكر بقراءة تاريخ الثورات التي حدثت جيداً، أن نفكر بوسائل التحرك، إذا كانت فكرة الأحزاب سيئة السمعة، وتستفز بعض الناس هناك أشياء اسمها تحالفات، حركات، نقابات، أي شكل من التنظيم، مبادرات، شيء يلم شمل الناس لأنه حين تظل الحكاية فقط عنفاً متواصلاً، فإن العنف مثل الظواهر البيولوجية الطبيعية فالعاصفة تنتهي والبركان يخمد والزلزال يتوقف فأنت لن تكون أقوى من الطبيعة. هذا هو المهم حالياً وهو الواحب لا الثوري فحسب بل الإنساني الأول لأي شخص يريد تغيير الأوضاع في بلده.

سنان أنطون: لقد تحدثت عن موضوع الوعي، هناك ظاهرة ليس فقط في مصر بل في  في عموم الدول العربية التي حصلت فيها ثورات أو لم تحصل وهناك خطاب  يعزو كل العنف والدمار الحاصل إلى ثورات نفسها، هل يمكن أن تعلق حول كيف نمتلك رؤية تاريخية حول ترتيب الأحداث وإلقاء اللوم في المكان الصحيح كي لا ينقطع التاريخ مع الثورات ونصاب بفقدان الذاكرة كما يحصل دوماً؟


بلال فضللدينا في ثقافتنا العربية الإسلامية مبدأ عظيم جداً في علم أصول الفقة  وهو أن الحكم على الشيء فرع من تصوره، فأنت حين تحكم على شيء ينبع حكمك من تصورك لهذا الشيء، وهكذا فإن حكم الناس على الثورات ينبع من تصوراتهم لأمور لا علاقة لها بهذه الثورات: أولاً، الاعتقاد بأن الثورات شيء مبهج، أنها شيء رائع يتبادل فيه الناس الرقص في الشارع ويحتضن فيه المسلم المسيحي والأسيسي يبوس الشيخ من فمه، هذا لا علاقة له بالثورات، اسمه احتفالات، كرنفالات سياسية، وكانت الأيام الثمانية عشرة أو بعضها مغموسة بالدماء، وبالعرق والحزن. إن الثورة لحظة انسداد، إعلان فشل. إن المجتمع الذي تنشأ فيه لحظة ثورة هذا دليل على أن التغيير فشل فيه، وفشل فيه الإصلاح، وفشل في إيجاد لغة حوار مشتركة بينه وبين نفسه. فتأتي الثورة كلحظة انفجار، كإعلان للفشل وليس إعلان أن الأشخاص جيدون أو ثوار إلى آخر المدى، كما في أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب التي أُعدَّت لتحية العسكر، إذ لا يوجد ثوار إلى آخر المدى، فأنت في مجتمع إنساني يحتاج إلى لغة للحوار وقانون مشترك، ويصل إلى اتفاق حتى على تنظيم الحد الأدنى من الفساد، حتى كي يوجد شكل ديمقراطي كما هو موجود في الديمقراطية الغربية التي يمكن أن نسميها ديمقراطية القلة لكن هذا الشكل من الديمقراطية يقود المجتمع إلى ما يتصور أنه بر الأمان، فمرة يكون من اليمين ومرة يكون من اليسار، وهلمجرا. ما حدث في مصر هو أن هذه الثورة لحظة  انسداد، كان يُكَرس لها منذ ١٩٥٢، شريان تضغط عليه، جلطة بعد أخرى،  إلى أن ينفجر، ولما تحين لحظة الانفجار، هل تتوقع أن يولّد هذا الانفجار أزهاراً؟ سيولّد قيحاً وصديداً ودماً ومصائب سوداء. بالتالي، هل تلوم لحظة الانفجار أم تلوم ما أدى إليها؟ وهناك مَثَل كنت أقوله للناس: إذا أصبت مثلاً بمرض خبيث، أو مرض قلب، لن يجديك إطلاقاً لعن المرض. يجب في لحظة من اللحظات أن تسأل نفسك لماذا أصابك مرض القلب مثلاً؟ أن تفعل كذا وكذا وكذا، فبالتالي، لو كنت تريد أن تشفى العنْ المرض كما تشاء، اعتبر الثورة مرضاً، اعتبرها لعنة نزلت من السماء، إذا اكتفيت بلعنها لن تشفى، ستموت. حاول أن تفهم ماذا حصل، هل هو استبداد؟ ما يحدث الآن خطة أذكى بكثير في الحقيقة: أن حسني مبارك كان مستبداً، لكنه كان مستبداً مرتخياً قليلاً، إذاً هل نأتيكم بالمستبد المنتصب، الذي هو في حالة قذف دموي كاملة، ولا يكف إطلاقاً عن قتل الناس؟ لم تكن المشكلة أنه مستبد مرتخ أو لين، بل كانت في الاستبداد نفسه. فأنت تقفل بدلاً من أن توسع الشريان وتفتح الجلطات فتضيع الشريان أكثر. ستظن أن هذا سيمنع حدوث الجلطات. الله أعلم كيف سيكون شكل الانفجار القادم. الحل هو أن تفتح الشرايين وترى ما المشكلة. فمثلاً لديك أزمة مثل أزمة القضاء، كثيرون منا من الذين شاركوا في الثورة كان لديهم إدراك بأن هناك مشكلة في القضاء المصري ويمكن أن هذا لم يكن يُعلن لأن هناك رغبة بأن تحصل حالة من حالات التأثر بالثورة، فإذا كان هناك ضغوط سياسية على القضاء موجودة قبل الثورة فتبدأ الناس بمراجعة نفسها ويحصل عقل جمعي بين القضاة. كان هناك أمل ورهان على هذه الحكاية. ثبت أن هذا كان حسن نية شديدة من قِبَلنا، لا أقول سذاجة بل حسن نية فعلاً،  لأنه لم يكن أحد يرغب بأن تتوسع المواجهة. لكن آن الأوان وحانت اللحظة كي نواجه أنفسنا بالحقيقة، وقد كتبتُ في المرة السابقة كيف تم تخريب القضاء من أيام مذبحة القضاة أيام عبد الناصر وكيف كرس السادات كي يكون هناك تحكم من السلطة التنفيذية بالسلطة القضائية. يجب أن يواجه المجتمع نفسه في هذا الوقت حيال أوضاع القضاة. فحين يأتي شخص ويقول لك، حتى من المفكرين الكبار، أي في السن والكرش والعجيزة،  يقول لك الثورات وكان لا بد من الإصلاح، لكن نرد عليه بأننا لم نقل لا. هل أمي هي التي رفضت الإصلاح وقالت كلا لا نحتاج إلى إصلاح؟ إن من رفض الإصلاح هو السلطة. فمثلاً لو توقف حسني مبارك عن ترشيح نفسه في انتخابات ٢٠٠٥ أو حتى فيما بعدها وقال إنني سأترك الحكم وأنظم انتخابات حرة، حتى الأشخاص من داخل الجهاز الحكومي للدولة، ويحصل نوع من أنواع التمثيل السياسي لما كانت حصلت الثورة. أو لما وصلت إلى مداها، على غرار الدول العربية التي فيها ملكيات التي تؤدي دوراً ديمقراطياً ما عبر مراكز التنفيس أي تقوم بنوع من أنواع فك الاحتقان. بالتالي يجب أن يواجه الناس أنفسهم. إن من يتحدثون عما حصل في سوريا والعراق ـ وأعرف أن هذا الكلام سيزعجك ـ يقولون أليس من الأفضل ألا نصبح كمثل سوريا والعراق. لكنكم تعيدون الآن ما حصل في سوريا والعراق، أنتم تعيدون حالياً الصداميّة والحافظيّة الأسدية في صورة عبد الفتاح السيسي، أوالقذافية، وتتخيلون أن هذا سينجيكم من مصير سوريا والعراق. الحقيقة أنكم تسيرون على هذا النموذج.

سنان أنطون: مع كل النقد الواجب والضروري للأنظمة الجمهورية التي بدأت بانقلابات لكن يوجد أيضاً محاولة لإعادة تأهيل كل الأنظمة الملكية والماضي الملكي الليبرالي  وكأنه كان أيضاً حفلة سمر طويلة. هل يمكن التعليق على هذا؟


بلال فضلإن المسألة كمثل شخص لديه أخ مصاب بالجذام ويصاب بالسرطان فينظر إلى أخيه المصاب بالجذام  ويقول له: يا بن المحظوظة!  الفكرة هي أننا في عالم عربي تعيس، فبالتالي إن المواطن العربي الذي تُقطع عنه الكهرباء ١٦ ساعة في اليوم، والذي تقطع عنه المياه يومين أو ثلاثة، والذي لا يشاهد أبسط شروط الحياة الآدمية، ينظر إلى أخيه المُستعبد في نظام ملكي كالنظام السعودي أو الكويت أو أي ملكية من هذه الملكيات يأكل ويشرب ويقبض فلوساً ومعونات، إلخ. فيقول:هذا جميل! لأنه ما يزال في الوطن العربي سؤال الحرية، الأسئلة الإنسانية، حرية الفكر، حرية الاعتقاد، حرية التعبير عن نفسك، هذه كلها في ظل المطحنة الموجودة في العالم العربي، وغياب الشروط الرئيسية للحياة، فحتى الآن لا يمتلك المواطن اللينك أو الرابط الضروري بأن هذا لا ينفصل عن هذا، إن ما يحدث الآن في السعودية والإمارات وفي الأردن، وفي كل هذه الدول، هو تأجيل لمشكلات، وليس حلاً لها. إن الحل النهائي للمشكلات سيكون بوجود حل نهائي لمشكلة الحرية، لمشكلة التعبير عن الرأي السياسي، لمشكلة حرية العقيدة، وإلا ستبقى المشاكل، ففي السعودية كل يوم يحدث انفجار هنا أو هناك، أزمة خلافة على الحكم، هذا مجتمع لم يحل مشكلاته، بل يحاول أن يؤجل الحلول. بالتالي الحكاية نفسها عندنا في مصر. ثمة تصور لدى الناس أنه لو نهدأ فحسب ونقتل أي متظاهر في الشارع وتدعمنا السعودية والكويت وأخوتنا الشجعان في الخليج العربي ببعض المعونات ونحصل على الفلوس فإن أعصاب الناس كلها ستهدأ، لا يوجد نظر إلى مشكلة بأن هناك أكبر كابوس يهدد أي حاكم في مصر وهو أن أكثر من ٦٠٪ من سكان مصر شباب تحت العشرين أو تحت الثلاثين بأقصى تقدير، إن هؤلاء ليسوا غنماً وليس لديهم استعداد كي يعيشوا بنفس الطريقة التي عاشت بها أجيال سابقة، أي أن يأكلوا ويشربوا وكأنهم في عش فراخ. كلا، لقد تأثروا بصدمة الحضارة وصدمة الانترنت وأصيبوا بنشوة التعبير عن الرأي الذي يتجلى في بوست على الفيسبوك أو تويتر حتى لو كانت خطأ، لكن هذه نشوة من ذاقها لن يتنازل عنها إطلاقاً.  لم تتأثر الأجيال السابقة بذلك لأنها لم تشهد هذه النشوة، كما لو أن الشخص مخصي، وأنا آسف على هذا التعبير. هناك أجيال كاملة تم خصاؤها في الوطن العربي وحرمانها من فكرة التعبير عن الرأي. فحين يشاهدون شخصاً يريد أن يمارس حريته الطبيعية يستغربون ويقولون: إيه، ماذا يوجد؟ نحن نعيش ومخصيون وكالفلّ. أو امرأة تعيش في حرملك وتطبخ وتمسح وتكنس لم تجرب فكرة متعة الجنس تستغرب حين تشاهد امرأة تريد أن تمارس هذه الغريزة الطبيعية الموجودة فيها. تنطبق الحكاية نفسها في فكرة التعبير عن الرأي، نشوته وجماله ومتعته، لن يتنازل أحد عنها، ومن يفهم هذا، إذ لدى بعض الناس تصور فيقولون ليقفلوا الفيسبوك، صحيح قد تحل مشكلة لكنك ستفتح على نفسك مشكلة أخرى، مصيبة في مكان آخر، يجب أن يدرك هذا المجتمع أنه لم يعد ممكناً الرجوع إلى الوراء، حتى عبد الفتاح السيسي لن يقدر على ذلك، وحتى لو بعث أحد الصحابة، أو بعث عمرو بن العاص ثانية، قد يمشي معه الناس قليلاً، لكن لوقت قصير وستبدأ المشاكل بعد هذا. يجب التواصل مع هذه الأجيال الشابة، لكن من ضمن الأشياء المضحكة المبكية في مصر أن يقول عبد الفتاح السيسي إن الألتراس جميلون أحضروهم كي يشتغلوا معنا. هذا الرجل لم يسأل نفسه ماذا وراء الألتراس؟ وأنا كنت من الأشخاص الذين انتقدوا مرة دخول الألتراس في العمل السياسي لأن هؤلاء شباب لا يمكن التحكم في ردود أفعالهم. أنت لم تفكر أن تسأل نفسك من هؤلاء؟ لا، أنت أعجبك الشكل والمنظر وقررت أن تستثمرهم على طريقة الخليفة: أعطه صرة من الدنانير. لم يعد ينفع هذا الكلام، وأنت لا تملك أساساً صرة من الدنانير كي تعطيها لأحد لذلك يجب أن تفكر بحلول إبداعية ومبتكرة وأكبر حل إبداعي ومبتكر هو أن تذهب وتجلس في بيتك. ويأتي ناس من هذه الأجيال التي ستعيش في البلد في السنين القادمة يديرون  الأمور، وقد أعجبتني مقولة لعلاء عبد الفتاح، وأدعو الله أن يفك سجنه، قد تختلف كثيراً مع بعض أفكاره ولكن لديه أشياء مبدعة وملهمة منها شيء كتبه أننا يوماً من الأيام يجب أن نبتدع حلولاً تخصنا، يجب ألا يكون قدرنا أن نمشي طبقاً لنظام الدولة الفرنسية الذي ما زلنا نسير عليه، منذ أن أحضروا محمد علي ونحن ما نزال نسير عليه، بقانونها، وبسجونها، وبنيابتها ومحاكمها. لقد أثبت هذا فشله، لنجرب إذاً ونبدع حلولاً. لكن حين تقول كلاماً كهذا يتم تسفيهه ويقولون لك أنتم أميركيون وأنتم فوضويون. لكن الفكرة ليست هكذا، الفكرة هي كيف نطور هذا الشكل؟ هل نهدمه؟ هذا ممكن لو كنا نريد.

هل نأتي بأمر جديد مختلف، لكن يجب بعد أن أثبتت هذه الدولة فشلها، وآخر محاولة لها بعد قيام الثورة هما السنتان الضبابيتان، أعتقد أن أي محاولة للترقيع الآن هي محاولة عبثية، وسيكون ثمنها المزيد من الدماء والمزيد من الآلام للأسف.

سنان أنطون: لقد كتبت على موقعك الشخصي على الانترنت تعليقاً لاذعاً جداً على أحد الروائيين الكبار، وأريد أن أسألك هنا حول موضوع طُرح سابقاً ولكن يحتاج إلى المزيد من التحليل وهو اصطفاف عدد كبير من المثقفين الذين كانوا محسوبين على اليسار أو يسار الوسط بشكل ساذج أو انتهازي، لكن هناك خيبة أمل كبيرة من مواقف عدد كبير من المثقفين والأدباء المصريين من النظام الحالي. هل كان يجب أن يفاجئنا هذا أم لا؟


بلال فضل: كان يجب أن نفاجأ إنسانياً. بالنسبة لي هذا الارتباط ليس ارتباطاً انتهازياً لأن لدينا مثل بالمصرية يقول عريان يشدّ بمقحّط، وأعني يأتي شخص عريان إلى شخص جلده مسلوخ وليس لديه شيء، ويحاول أن يتمسك به. هذا هو الحال، فالدولة المصرية ليس لديها حاجة الآن كي تمنحها للمثقفين الذين تتهمهم أنت بالانتهازية . إن المسألة برأيي تجاوزت كونها مخاصمة للمبادئ، إنها مخاصمة للإنسانية. لا يعنيني إن كان وراء ذلك خوف من الإخوان،  أو خوف من الإرهاب، في النهاية هذه مخاصمة للإنسانية، فلدى هؤلاء الأشخاص مشكلة إنسانية. إنهم أساتذتنا ونحبهم ونجلهم، وفي النهاية نصل إلى قناعة أننا نفصل ما بين الفن، أو التعبير الشهير  بأن هناك فنانين وهناك الفن. فأنا مجبر الآن حين أمسك رواية لبهاء طاهر أو لصنع الله ابراهيم أو لغيرهما أقول إنني أقرأ رواية كتبها الروائي بهاء طاهر أو الروائي صنع الله ابراهيم، وذكرت أكثر من نموذج من الذين أحبهم، لكن مثلاً يأتيك بهاء طاهر منذ عدة أيام ويقول لك أنا راض عن أداء السيسي. هل أنت تعيش معنا يا أستاذ بهاء؟ أم مهاجر في هاواي؟ حتى إذا كنت لن تبكي على نصر جماعة الإخوان الذين يتم اعتقالهم من غير ذنب ولا سبب وفيهم  أشخاص لم يفعلوا أي شيء سوى أنهم مشوا في مظاهرة، أو بنات تحمل دبوس رابعة، لكن بالنسبة للشباب الذين فيهم أولاد زملائك،  شباب في عمر الزهور. فحين أذكر لك الإخوان تقول لي فوراً هذه جماعة مسلحة وكلها تدعو للعنف، طيب بالنسبة  ليارا سلام وثناء سيف وغيرهم من الشباب والبنات. طيب بالنسبة للناس الذين ماتوا في سيارة ترحيلات أبو زعبل، وقد كشف حالياً تسريب من مكتب السيسي ومدير مكتبه ومساعده للشؤون القانونية في تبرئة مرتكبيها. بهاء طاهر أستاذي وأنا أحبه وثمة صداقة بيننا، وطبعاً يجب أن يكون المرء مع الحق هنا. ولا نقول هذا رغبة بالمزايدة بل رغبة بأن نحمي أنفسنا في المستقبل من  أن نوضع على طريق التحول، كأنك بإعلان رفضك لهذا تظن نفسك أنك تحتاط من القادم. فقد كتب بهاء طاهر في روايته “قال الضحى” عن خطورة الظلم المؤقت، أي إياكم والظلم المؤقت الذي يحصل بعد الثورات بدعوى أن هذا هو الطريق إلى العدل، وهذا ينتهي لأن الظلم يبقى أبدياً والعدل  يبقى حلماً. حسناً يا رجل اقرأ المكتوب في الرواية وحاول أن تطبقه على الأقل. أعتقد أن سلسلة الصدمات المتتالية ترتقي بالعلاقة بين القارئ والكاتب في مصر وستطورها لأنها جديدة، غير مسبوقة، ودائماً لدينا في التاريخ الحديث، المثقف هو دوماً رافض الظلم، هو الذي يدفع الثمن، هو المنفي، وهو المسجون، ما يحصل الآن هو العكس لدى نسبة كبيرة من المثقفين. إن غالبية المثقفين إن لم يكونوا مع الظلم فهم يؤيدونه أو يبررونه أو يغضون الطرف عنه على أساس أنه ساعة وتزول. وبالتالي لن تنتهي رواياتهم أو أشعارهم، وستظل موجودة وستظل أجيال جديدة تقرأها، وسيبقى الأمر كما أنت في أميركا تقرأ عزرا باوند وتعرف عبر تركيب ذائقتك كقارئ أنه تورط في فضيحة كارثية وهي دعم الفاشية. لكنه سيظل شاعراً عبقرياً، وستظل تستمتع بأشعاره حين تقرأها، وستبقى حين تشاهد أفلام إيليا كازان تتذكر دوره المخزي في دعم المكارثية الذي دفع ثمنه لكنك تعشق أفلامه. سيحصل هذا النوع من التركيب لكن في الوقت نفسه سيطرح سؤال لا بد من تغيير دور المثقف عندنا الذي كان الناس يعتبرونه شاعر القبيلة. يجب أن تنتهي حكاية شاعرالقبيلة هذا، ويجب أن يعود الأمر بأن المثقف لا يعبر إلا عن نفسه.

سنان أنطون: أي أنه مواطن كغيره


بلال فضل: مواطن يجيد الكتابة الروائية، يجيد كتابة الشعر، يجيد كتابة المقالات. رأيه يخصه وأنت كقارئ تقرأه وتفكر به وتمشي. أما فكرة المثقف الذي يمشي حوله المريدون ويتحلق حوله الناس في عمود الرواق أو يقول الشعر والناس تقول: الله! هذه أمور من العيب أن تكمل معنا لغاية حتى الواحد والعشرين. لذلك أنا شخصياً حين أكتب مقالاً لا أهتم بأنك أنت تعبر عن رأيك بي لأنني لا أعرفك. انتبه إلى مسألة. هناك جزء من الحكاية وقع فيها الناس من تملق القراء حين يقول الكاتب: عزيزي القارئ. هل تعرف أنت من هو القارئ؟ ومن عزيزك القارئ؟ تخيل شخصاً يتحدث مع غيمة في السماء ويقول لها: عزيزتي الغيمة. هل ستمطر؟ سيقال عنه إنه مجنون؟ أنت لا تتحدث إلى عزيزك القارئ، بل تكتب معبراً عن احتياج شخصي في داخلك للتعبير عن رأيك في هذا الوقت فإذا وافقك الناس أهلاً وسهلاً، شكراً لهم، وإذا لم يوافقك الناس ستظل تكتب وإلا تتحول إلى عبد عند الذائقة الشعبية والذائقة الجمعية. وهنا كانت اللحظة التي بعد ٣٠\٦، هناك بعض المثقفين الذين يخافون من مواجهة الجموع، غالبية الشعب التي ناصرت السيسي، واضطروا لأنهم طول الوقت متعودون على أن يكونوا جماهيريين، ليس لديهم أزمة أنهم يقفون ضد الناس، فهناك أشخاص كثيرون سقطوا في هذا الامتحان الرهيب، وحين تتحدث معهم يقولون لك نحن مع الناس، لكن يا سيدي أنت مع الناس حين يقول الناس الدم، حين تكون هناك لحظة فاشية أنت مع الناس أم أنت من المفروض أن تدفع الثمن بأن تقف ضد الناس. كانت هذه لحظة حاسمة كما هي مؤلمة ومريرة جداً أعتقد أنها على المدى البعيد ستعلمنا كلنا.

سنان أنطون:  بما أننا نتحدث عن الناس وعن علاقة الكاتب بالقارئ. وقد رويت لي في لقاء سابق ما حدث لك قبل أن تغادر مصر، عن ردود فعل بعض الناس التي آلمتك، هل يمكن أن نتحدث عن هذا الموضوع لأنني أعتقد أنه مهم؟


بلال  فضل: أعتقد أن حظي كان جيداً، باعتبار أن عملي في السينما، ففي فترة بعد رابعة، كنت أكتب ضد النظام بشكل مباشر في صحيفة “الشروق” وكانت هذه كتابات دفعت ثمنها بشكل أقل مما دفعه آخرون، كتضييق في الرزق ولكن الحمد لله على كل حال لكنني كنت جيداً بأنني لم أتعرض لاعتداء لأن هناك غيري من تعرضوا لاعتداء في الشارع. لا أعرف،  ريما فكرة العمل في السينما، أو أنني أحاول التعامل مع الناس بشكل وديّ، لكن مرة حصل معي موقف لا أنساه وهو محزن جداً. أنا أسكن في  منطقة شعبية في وسط القاهرة على أطراف المنيرة، ما بين المنيرة والتحرير ونزلت مرة السوق كي أشتري فاكهة أتت امرأة تبدو وكأنها خارجة من جلسة غسيل كلاوي مجهدة ومتعبة. كنت دائماً أقول: الشعب المصري المرهق وليس الشعب المصري العظيم، أنا رأيي أن الشعب المصري ينطبق عليه حالياً وصف المرهق. تشعر أن الناس متعبة ومجهدة.نظرتْ إليَّ وقالت لي: هل أنت بلال فضل؟ فقلت لها: نعم أهلاً وسهلاً حجة كل سنة وأنت طيبة. قالت لي: حسبي الله ونعم الوكيل فيك وفي ٢٥ يناير وفي كل الذين شاركوا في ٢٥ يناير وكل الذين خرجوا في ٢٥ يناير كما لو أنك في حالة مونولوج شكسبيري متصاعد، ذلك أن هذا الكلام كان شاغلاً لها كثيراً مع نفسها، فلم تصدق أنها عثرت على أحد تقول له هذا الكلام. فهمتُ بالطبع الموقف الذي أواجهه وكنت أهز رأسي وأقول لها: معك حق. هل أنت سعيدة هكذا يا حاجة؟ هل يمكن أن تشتمي أسماء معينة لأن الذين شاركوا في ٢٥ يناير منهم ناس استشهدوا ومنهم ناس في السجن وأشخاص هاجروا. فقالت لا والله لا يكفيني فيهم إلا قتلهم واحداً واحداً . يجب أن نراكم جميعاً مقتولين كما قتلتم الضباط والعساكر. لا بد أن هذه المرأة خضعت لستمائة ألف ساعة بث تلفزيوني مباشر ومستمر لإقناعها بأن الثوار هم من قتلوا الضباط والعساكر وبدأت تعدد الأسماء. وهي تعدد الأسماء بان مأزق الثورة. ماذا قالت مثلاً؟ حسبي الله ونعم الوكيل في يسري فودة ، وريم ماجد، وعلاء الأسواني، وهذا الكلام بعد ٣٠\٦ بفترة، وهناك عدد كبير من الناس إما بقوا مع ٣٠\٦ وصار الثوار يشتمونهم،. وحسبي الله ونعم الوكيل بمصطفى بكري فقلت لها يا حجة إن مصطفى بكري مرضي عليه حالياً. فقالت لي: لا، نحن طلب منا الأستاذ توفيق عكاشة أن ندير بالنا من هذه الأشكال التي تركب الثورات، يجب أن يحاكم كل من وقف ضد حسني مبارك. قلت لها هذا معناه أن عبد الفتاح السيسي يجب أن يكون أول من يُحاكم. فهذا كان رئيس المخابرات الحربية، والجيش حمى الثورة فيجب أن يحاكم، فقالت لا، الرجل كان متنبهاً وقال إنه يجب أن يضحك على الثوار وبعد ذلك يرجّع البلد. لقد أنتجت الست سردية شعبية تبرر فكرة التناقض بين دور الجيش في يناير وبين انقلابه على يناير ودعمه ليونيو حالياً حتى لو من تحت لتحت وليس بشكل صريح. والحقيقة أنني لم أستطع أن أتعامل مع الموضوع بسخرية. ربما سمعت عن هذا الموقف كثيراً لكنه لأول مرة يحصل معي. نظرت إليها وقلت لها: ماذا تريدين يا حجة؟ بماذا أستطيع أن أساعدك كي أريحك؟ فأجابت أن تموتوا أنتم كلكم. فقلت لها حسناً، إذا حصل هذا هل سيريحك؟ فقالت: نعم، فقلت لها: طيب سأعدك بأنني سأحاول. وكنا وقتها في محل مكسرات، المكسرات من النوع الرديء لكنه قريب من البيت، فحين قالت الست أول مرة حسبي الله ونعم الوكيل ب ٢٥ صاحب المحل  يناير، فقال لها: معك حق يا حجة، فقلت له: يا نهارك أسود، ألم تكن مع الثورة؟ فقال لي: بصراحة تركنا يا أستاذ بلال. تيبين أنه طول الوقت يجاملني لأنني زبون له. حدث هذا في رمضان الماضي. هناك لحظة طبيعية يمكن أننا قرأنا عنها في التاريخ، فكرة أن الثورات تأكل أبناءها وتغير الواقع وتقلبات الخلق أيام الثورة، لكن بقينا في لحظة حين المواطن العادي البسيط ينظر ويشاهد مفكرين المفروض أنهم أمضوا ستين سنة وهم يفكرون، فمثلاً لو حمار قضى عشر سنوات يفكر ويكتب سيفهم أكثر من المفكرين الكبار الذين فيهم بعض أساتذتنا، الذين يخرجون كي يقولوا للناس إن الثورات هي السبب، وكان يجب ألا تحصل هذه الثورة وهي سبب ما جرى، ويساهموا في تزييف وعي الناس وتضليلهم. في ضوء هذا ماذا تتوقع من هذه الست المغلوبة على أمرها، إذا كان هناك من يقول كلاماً يشبه ما تقوله هي؟ ولذلك إن الدور الحقير الذي يلعبه بعض المثقفين، من دون ذكر أسماء، أي أنهم كما نقول بالمحكية المصرية خلعوا ثيابهم. لدينا تعبير في مصر لدى الفرانين، فحين يأتي الفرّان إلى عمله في الفرن البلدي يخلع ثيابه كي لا تجعل الحرارة الملابس الداخلية تلتصق بالخصيتين، فحين يتخاصم مع صاحب المحل يبدأ الناس بتهدئته فيقولون له: خلاص، صلّ عالنبي واقلع اللباس، من أجل أن يخلع لباسه ويعمل. وهكذا لدينا مثقفون خلعوا ثيابهم ودخلوا كي يشتغلوا طول الوقت في لوم الثوار، وطول الوقت حين يتكلمون في النقد الثوري  هذا جميل، ولكن في الوقت نفسه انقدْ الدم، انقدْ القتل، ثم في ما بعد انقدْ الثورة، أو مع ذلك كله انقد الثورة، ولكن حين تكون الحكاية أن برنامجك مسخر أو مقالك مسخر طول الوقت لشتيمة الثوار الذين هم في السجن أو سافروا أو اكتأبوا أو يحاولون فهم ما حصل أنت هكذا تكرس إحساس المواطن العادي مثل هذه السيدة التي ستقول لك يا عمي الذين كانوا معكم يشتمونكم، إذاً أنتم مخطئون. لنفرض أنه تحقق لنا كلنا ما طلبته هذه السيدة في ساعة استجابة وكان هذا في شهر رمضان، أو لعلها دعت في ليلة القدر وقالت والنبي يا رب ولاد الكلب دول واحد واحد يموتوا. لنفرض أن باب السماء كان مفتوحاً ومات هؤلاء الناس كلهم، لن يتغير في حياتها أي شيء. بل بالعكس ستتغير حياتها إلى الأسوأ، ستظل تأخذ الفتات وتظل تبحث عن مكان لائق لغسيل الكلى. أقول لك إن عدائي مع نظام مبارك هو عداء شخصي، لأنه قبل أن يكون لدي مال وأعمل في السينما ويفتحها الله عليّ كنت شخصاً فقيراً من عامة الشعب، وقد رأيت مشهداً غير إنساني كي أختم لك به كلامي حول هذه النقطة: والدتها، أدعو أن يشفيها الله، كانت بداية إصابتها بمرض السرطان. واجهت مشكلة في الصدر واشتبهنا بأنه ورم، وتبين أنه ورم لا بد من إزالته، فتشنا عن واسطة، إذ لم يكن معي نقود وقتها، وكانت جريدة الدستور قد أغلقت سنة ٩٨ ولم يكن هناك مصدر رزق، لكنني كنت أعرف الفنان الكبير صلاح السعدني وقد كان أستاذي وحبيبي فطلبت منه أن يتحدث لنا مع أي شخص يعرفه في معهد الأورام فمن حقها أن تعالجها الحكومة لكننا كنا نذهب كل يوم فنرى عشرة آلاف شخص ولم نستطع الدخول وخفنا أن يستفحل المرض وفي النهاية لا نريد شيئاً ليس من حقنا، نريد فقط  أن يراها طبيب ويشرح لنا وضعها. المهم ذهبنا ووقفنا أمام المشفى على أمل أن نرى الطبيب ففوجئنا بعساكر خرجوا بعصي وخيزرانات وصاروا يضربون الناس يميناً وشمالاً  والناس تصيح وكلهم مصابون بالسرطان: سيدات كبيرات في السن وأطفال. مشهد لا أستطيع أن أصفه، وقفت أبكي من الحزن و”عايز أولّع في البلد” من كثرة الغيظ والمهانة التي أحسست بها. كان هذا سنة ١٩٩٩، ومشيت وقلت لها سأذهب وأسرق غداً، يجب أن تشاهدي الدكتور بأية طريقة. لكن بعد ذلك لحسن الحظ دخلنا المستشفى بعد أسبوعين وأجرت العملية. دعوت لله أن يُهدم هذا المستشفى أو ينفجر لأنهم يجب أن يبنوا مستشفى ثانياً مكانه، وذلك بسبب طريقة المهانة التي يعامل بها المرضى والاحتقار والناس تصيح في الليل: ارحموني والممرضات جالسات في الخارج يضحكن والأطباء لا يأتون: منظومة مهترئة كلها. هذا كان نظام مبارك الذين هم يصورون للناس أن الناس هدموه، والناس لم تكن ترى هذا، ولذلك حين تعبت والدتي مباشرة قبل الثورة وكان معي نقود أدخلتها إلى مستشفى خاص وعولجت أفضل علاج وشفيت والدكتور قبض مبلغاً كبيراً وعالجها لكن طول الوقت لم أكن قادراً على نسيان لحظة الإهانة والاحتقار التي شاهدناها كمواطنين. الذي لم يدرك في مصر أن الثورة كانت الفرصة الأخيرة لحل هذه الأزمة أتمنى له حياة سعيدة، أتمنى له حظاً سعيداً مع النظام الذي يعاود توزيع الفقر ويعاود توزيع الثروة على الضباط وعلى القضاة والألوية ورجال الأعمال الجدد ويرمي له الفتات.وأنا أقول لك أتمنى أن تعثر على الفتات. إن رفاهية الفتات التي كانت موجودة من قبل لم تكن موجودة وسيظل أمامك سؤال رئيسي وهو أنك يجب أن تأخذ حقك، يجب أن تعيش كمواطن وليس كرعية حتى لو أنزلولك ـ من شيخ الأزهر ـ صحابة من السماء وقالوا لك أنت على حق، ولو غنوا لك بشعارات الوطنية والحفاظ على الدولة وكامل تراب الوطن كل هذا لن يكون مفيداً لك في حل مشاكلك الرئيسية التي جاءت الثورة بشعاراتها: العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والحرية.

سنان أنطون: لقد تكلمت مرتين عن رجوع الصحابة هل لديك تسريب؟


بلال فضل: إن الرجل يقول لك طول الوقت إنه يشاهد أحلاماً ومنامات، وليس بعيداً أن يخرج قريباً في خطاب على طريقة محمد  صبحي في مسلسل فارس بلا جواد ينزع القناع ويقول لهم أنا القعقاع  أو أنا شمر بن الجوشن، فنحن نُحكم بخطاب، حتى الكلام الذي يقوله السيسي عن فكرة الثورة الدينية، وأنه سيقوم بثورة دينية فهو في النهاية يحكم بالطريقة الدينية نفسها. فأنا مثلاً لا أشعر أننا نعيش في مجتمع علماني أو مجتمع أتاتوركي في حكمنا، ففي النهاية مشكلتك أنك لا تحتاج إلى المتطرف المسلم يقطع رأس شخص مخالف له في الرأي، لكن أنت تحتاج إلى المدرعات تضرب رصاص وتقتل ٨٠٠ شخص في يوم، إذاً هل مشكلتك أنك ترى الرأس يتدحرج أو أن ترى الرصاص يُطلق؟ هل مشكلتك أن يتم تحجيب السيدات وإلباسهن النقاب أو يلبسن الميني جيب لكن يُعاملْن في مجتمع ذكوري حيث الزوج يضرب الزوجة في البيت وهي غير محجبة ويعاملها بنفس الأفكار بأنها تخرج من بيت زوجها إلى القبر؟ هل مشكلتك في النهاية أن يبقى هناك الشكل القشري، أننا نعيش في مجتمع متحضر والسيدات يرقصن لك في الشوارع وهن رافعات صورك كجنرال على أنغام بشرة خير؟ هل هذا معناه أننا مجتمع حل مشكلة المساواة بين الرجل والمرأة؟ كلا، فهل بالتالي، مشكلتك في حرية الفكر أن ننقي النصوص الدينية العنيفة؟ لكن بالنسبة  لحرية العقيدة وبالنسبة للأفلام التي تمنعها أنت والكتب؟ وبالنسبة  لفكرة أنك حتى الآن تقول للناس الأزهر ودور الأزهر و تتعامل مع الناس أن حل مشاكل المجتمع يأتي بخطاب فوقي، وحين تتحدث وتقول: أنا أقول وعوا الناس، وعوا الناس، هذا يعني أنك تعيش في القرن السابع الهجري.

لقد ذهبت في القرن الواحد والعشرين فكرة التوعية، نحن نتحدث الآن بفكرة المثقف، والمواطن في النهاية، وأنت كشيخ مواطن، مواطن يعني دورك كرجل دين أن تشرح للناس ما غمض عنهم ويسترشدوا برأيك لا أن يسيروا وراء كلامك، أي لن تزول وظيفة الوعظ كي تطمئن الناس وأنا شخصياً لست من الداعين لذلك وإنما أن يلزم كل شخص حدوده ويعرف طبيعة عمله ويعرف ما المطلوب منه. أنت تعمل على أرواح الناس، على وجدان الناس، على الناس القلقين والحائرين والذين هم غير قادرين على تأمين صلة مع السماء، هذا دورك، لكن حين تكون في القرن الواحد والعشرين وتقرر أن تحل مسألة الاقتصاد ومسألة الطب، هذا نوع من إعادة إنتاج الكفتة الخاصة بعبد العاطي، أي تحل مشكلة العلمنة ومشكلة الصراع بين الدين والدولة بنفس المنهج الخاص بالكفتة. الذي بالمناسبة لم يحصل من عشر سنوات حصل من سنة طلع أمام الناس وقال ربنا ألهمنا وربنا أكرمنا. الله ليس ملكاً لأحد، فربنا لا يقول كل يوم أنا أحل مشاكل المصريين، فهو خلق البشر سواسية ويجب أن تؤمن بفكرة أن السماء غير مشغولة بك وأنك أنت ستصنع قدرك وأنك غير مذكور في القرآن . جهنم مذكورة في القرآن أيضاً. هناك هوس عند المصريين أن مصر مذكورة في القرآن، فجهنم مذكورة في القرآن وهي جهنم أو أننا محروسون بالأولياء، لو لم نكن محروسين بالأوليا لكان حصل لنا أعلى نسبة فشل كلوي، وأعلى نسبة كبد. يجب أن تحصل مجابهة بين المصريين وبين هذه الأوهام.هذه هي الثورة الحقيقية القادمة، أن ترى الناس نفسها في المرآة، أن تدرك حقيقتها في الكون في المرآة، وتدرك أن التعلق بأوهام الأقدمين أو أساطير الأولين، طبقاً للتعبير القرآني، لم يعد مجدياً.  نحتاج إلى تفكير جديد، أو خيال جديد يأخذنا إلى الأمام أو سنبقى نحفر في القاع الذي نحن موجودون فيه.

سنان أنطون: لا نملك الوقت كي نغطي جميع الموضوعات، لكن هل تحب أن تقول شيئاً للمستمعين من المحيط إلى الخليج؟ وأبعد حتى


بلال فضل: من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر. ليس من اللازم أن نغطي ولكن يمكن أن نعرّي

سنان أنطون: عرِّ كما تشاء


بلال فضل:  نقتدي بأستاذنا أبي العلاء المعري الذي قال كما أذكر : زمن رئاسته خساسة. كأن هذا الرجل يعيش معنا، حتى المتنبي يمكن ألا يكون بهذه المرارة والتشاؤم

سنان أنطون: انتقد تسخير السلاطين للدين


بلال فضل: بالضبط موضوع استخدام السلاطين للدين الذي نتكلم عنه الآن.  كما أود أن أشكرك على هذه الفرصة السعيدة وأنا من قرائك المعجبين. وأنا أدعو الناس ـ الذين يقولون أليس من الأفضل ألا نكون مثل سوريا والعراق ـ أن يقرأوا روايتيك بالترتيب، وهذا ليس مجاملة لك، من أجل هذا السؤال تحديداً، “وحدها شجرة الرمان” و”يا مريم”، ونتكلم بعد ذلك. لو تقرأوا الروايتين وتدركوا خطورة ما ندخل فيه، خطورة الطريق الذي تسلكونه في هذا الوقت بتأييدكم وسكوتكم، بالمناسبة الناس تفهم أنك حين تكتب تقول للناس اخرجوا في الشارع، لكن بالنسبة لي إطلاقاً، أنا من الناس  كنت في مصر لا أدعو الناس للخروج في مسيرة فما بالك وأنا مسافر، لأنني لا أؤمن بنظرية المثقف التحريضي أو التعبوي. أنا أقول رأيي، من المهم وأنت جالس في بيتك ألا تصدق الأكذوبة  حتى لو لم تفعل أي شيء لدفعها. إن مجرد عدم اقتناعك بالأكذوبة أو عدم ترديدك لها هو بداية الطريق لاندحار الأكذوبة، انجاز كبير، إنما العيب، كل العيب، أن تبقى مؤمناً بالأكذوبة أو تسارع إلى نشرها على أساس أنها حقيقة، فأنا لا أدعوك إطلاقاً كي تموت لأن الموت الآن لا ثمن له للأسف، بالعكس أدعوك لحياة أطول، وأدعوك كي تعيش أكثر فربما ترى لحظة تغيير، ربما ترى لحظة نصر، ولكن حاول أن توعّي نفسك مبدئياً بقراءة الأدب الجميل الذي ينير العقل، ونحن لدينا لحسن الحظ أدب عريق جداً، سواء كتب كتاب أمريكا اللاتينية أو الأتراك في أدبهم الساخر، وحتى الأدب العربي، روايات كثيرة جداً كالتي كتبتها أنت، ومثل التي كتبها خالد خليفة، وابراهيم نصر الله. فالأدب في وسط الأجواء القاتمة التي نحن فيها الآن  يكون ممتعاً في القراءة ويأخذنا أيضاً
إلى لحظة تنوير لإدراك الأيام التي سندخلها وكيفية مواجهتها. هذا ما كنت أود قوله.

سنان أنطون: أنت شرفتنا، وأشكرك. هناك مسألة أخيرة، حين شاهدتك على برنامج باسم يوسف غنيت وصوتك جميل جداً ويوجد تقليد في البرنامج أنه يجب أن تغني مقطعاً على الأقل. فحين تكون لوحدك بماذا تدندن؟


بلال فضل: أنا أحب الغناء جداً، أحب عبد الوهاب،  وعندي حالة غرام إلى درجة أن أم كلثوم تطلع لي في اليومين هذين في المنام وتقول لي: حلّ عن سماي أبوس إيدك، غيّر، غيّرني يا شيخ. اشتقت أن أسمع أيضاً محمد فوزي ولدي حالة إدمان لأم كلثوم لكن من الصعب أن أغني ولكن يمكن أن أرقص باعتبار نحن في راديو. يمكن أن أطلب أغنية “غلبت أصالح في روحي” وهي أعظم ما غنته أم كلثوم، لأننا كلنا في لحظة خناق مع الروح فنحتاج إلى التصالح مع الروح قليلاً، فلو سمعت الناس قسماً من هذه الأغنية سأكون ممتناً جداً.

سنان أنطون: أنت تأمر وألف شكر على اللقاء الجميل وعلى وجودك معنا.

بلال فضل: متشكر جداً وشكراً لكل مستمعي ستاتوس. 

قراءة المزيد